هنا صرّوت

هنا صرّوت

السفير نيوز – د.حسين العموش

من حوض (حمبزه) المقابله لحوض ( سفوح الهوا ) في صرّوت القريه الوادعه بأهلها وطبيعتها وهدوئها ،يعن على بالي سؤال كبير بحجم وطن ،هو : كيف يحتمل المغتربين جمرة الاغتراب ونارها ،ويغادرون لسنوات ارضهم وترابهم وعشقهم الابدي للناس وللمكان.
كيف يصبر هؤلاء على البعد والجفاء عن ناسهم وارضهم وعشقهم وتولعهم في ترابها .
يعود بي الزمن الى الوراء خمسة واربعين عاما حين كان (علي المحمود) ابي رحمه الله يفلح ويزرع القمح والشعير والعدس والحمص في بطحاء (سايح ذياب) المعروفة الان بحي الفيحاء الرابض على كتف لواء الهاشميه الشرقي .
كانو يسمونها (تلعة علي المحمود) كنت انتشي بهذا الاسم المرتبط باسم والدي ،الذي علمني ان الارض ليست ترابا ،بل روحا ومحبة وعطاء .
تعود بي الذاكرة الى والدتي (شاهيّه) وهي تودع حليب عنزاتها في (السعن) تخضه مع طلوع الفجر ،تغني عليه تراتيل الحب والطمأنينه وتزرع في قلب طفل ينتظر (الزبدة) كاهم مخرجات الوضع القائم برضى واستكانة لا نظير لها .
اما رائحة الحليب وطعمه فلا يعرفها الا ابناء جيلي ومن سبقني في الشقاء .

على سفوح قرية الهاشميه شمالا ،او على مقربة من مزرعة عبدالكريم الهليل جنوبا ،مرعى من العشب يكفي لعشر رؤوس من الماعز كنت راعيها ، احمل (مذروبي) واهش به عليها حين تحرن عن المسير .
ادللها ،امازحها ، تفهم علي وعلى لغتي فتطيعني بالابتعاد عن دالية بستان عبدالكريم الهليل ، وتوغل اسنانها في عشب الارض .
وحين يأتي موعد الظهيرة الحارة ، اعود بها الى (حوش الحلال) واذهب راكضا الى غداء غموس القطيع بالزيت ، او (قوشانية) لبن المخيض ، او زبدة السعن مع خبز الشراك ،ما الذه من طعام .
اسعد لحظات حياتي وارقى السمفونيات التي سمعتها في حياتي حين يأت موعد حلب الماعز .
تجلس امي رحمها الله على طوبة تركي ظهرها الى الجدار الترابي ،فاجول بين عنزاتي ، امسكها بمحبة الاب الحنون واحضرها الى امي ،ادير لها ظهر العنز ليكون الشطر في متناول يدها الطاهره .
(الشخبة) الاولى حين يرن صوتها على طاسة التوج تأخذ قلبي من مكانه ، تأسرني رائحة الحليب ، تتملكني الرغبة الشديده في شربه طازجا .
ارقب شاهيه وهي تعمل اصابعها في حلب العنز فيفيض الاناء بالرغوة (رغوة الحليب) وحين انبهها ،تبتسم وتكمل عملها .

انظر الى الافق الغربي فأرقب الشمس تميل بدلال الى خلف شعلة المصفاة (مصفاة البترول الاردنيه في الهاشمية).
تعلقت بالارض واحببتها ، يدفعني الى ذلك حكايات قلتها واخرى لم يسعفني التعبير على قولها .
حين اسافر ،اعد الايام واتفقد تذكرة العودة ،لعلها قريبة .
لففت العالم ،ثمانين دولة دخلتها وخرجت منها مسرعا في عقلي الباطن (تلعة علي المحمود) حي الفيحاء الان / لواء الهاشميه.
في عقلي الباطن صوت شخبة الحليب الاولى وطعم الزبدة ولونها الناصع البياض .

اليوم قدر لي الله ان يكون لي بيتا في خاصرة صروت في منطقة الحوايا ، على الطرف الغربي من العالوك ، اعيش واسرتي نهاية اسبوع ، ننتظر يوم الخميس بفارغ الصبر لنذهب الى هناك ، يسألني ابني الصغير عبدالله كل يوم ،(بابا متى يأت الخميس) .
العودة الى الطبيعة تريح النفس والاعصاب ، وزراعة قنّار البصل والفول والبطاطا والورقيات متعة لا يعرفها سوى ابناء القرى .
في صروت اخرج من العالم وبؤسه وتعبه الى راحة اسبوعية ،نتفيء فيها شجرة البلوط ، ونستنشق هواءً عليلا منعشا .
ينقصنا عنزات امي والسعن وزبدته ، ينقصني ملمس يد علي المحمود وهو يبذر القمح بفرح امام تراكتور (الجرمان) وهم عائلة من ابناء العمومة من عشيرة المشاقبه اشتروا جرارا زراعيا ابيض اللون يحرثون به للزبائن ، اذكر سائقه عليان وحسن وسليمان الجرمان ،يتناوبون على العمل بفرح غامر .
ينقصني طنجرة التوج وصوت الشخبة الاولى ،وثغاء عنزتي السمرا باحثة عن وليدها ،ينقصني ان لا اعود ظهر السبت الى ابو نصير ، وان اقضي بقية العمر هنا في صرّوت .
العودة الى الطبيعة هي الحياة بذاتها ولذتها ،وللحديث بقية