اللواء الركن (م) الدكتور محمد خلف الرقاد يكتب : رسالة إلى صديقي اللدود ” جوزيف ناي” صاحب نظرية الحرب الناعمة

اللواء الركن (م) الدكتور محمد خلف الرقاد يكتب : رسالة إلى صديقي اللدود ” جوزيف ناي” صاحب نظرية الحرب الناعمة

السفير نيوز

ما كنت أرغب الخوض في هكذا موضوع ، لولا أن استثارني فصل في كتاب وضعه مؤخراً صديقي العزيز الأستاذ الدكتور مناور الراجحي رئيس قسم الإعلام في كلية الإعلام في جامعة الكويت وهو بعنوان : ” استراتيجية الإعلام الحربي : التحديات والمعوقات” ، وقد طلب رأيي في مضامين وأفكار الكتاب قبل أن يدفع به إلى المطبعة للنشر ، وكان عنوان الفصل الخامس من هذا الكتاب بعنوان : ” الإعلام والحرب الناعمة ” .. مما دفعني إلى تسطير هذه الرسالة إلى صديقي اللدود الذي لا تربطني به صداقة حقيقية ، فأقول له :
صديقي اللدود السيد “جوزيف ناي” صاحب نظرية الحرب الناعمة ، وقبل ان أستهل الرسالة .. أسال نفسي هل أنا في كامل وعيي إذ أختار صديقاً مثل “جوزيف ناي” الذي سـ “يزم ” شفتيه إما إعجاباً أو تعجباً أو استغراباً إذا ما اطلع على عبارة صديقي ، كونه هو الذي خلط الأوراق، ودعا إلى إثارة الأحداث الناعمة من خلال نظريته التي أبدع فيها وهو يبحث عن مصلحة بلاده ، وكيف له أن يساعدها في تحقيق أهدافها الاستراتيجية بالهيمنة على العالم ، ويخلصها من فداحة الخسائر والأكلاف المادية والبشرية الزائدة عن الحدود المسموح فيها ، والتي تمليها أهداف بلاده الاستراتيجية، ليخرج على العالم بنظرية لا تكلف بلاده التخطيط لشن حروب عسكرية ، ولا تضطرها لتخصيص موازانات باهضة لمزيد من تقنيات الصواريخ العابرة للقارات والحروب السيبرانية والحروب النووية ، مع أنه لم يخلْ التخطيط الاستراتيجي لبلاده من الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الحفاظ على تطوير القوة الصلبة واعتبارها لــــــ” للكي” وعند اللزوم فقط لأن آخر الدواء الكي، ولكنه يحتفظ بها لتبقى في اليد .
هل من المعقول أن أخاطب السيد “جوزيف ناي” بالصديق وهو ذو المكانة العلمية والسياسية والعسكرية في بلاده ، وموضع تقدير مسؤوليه وقياداته السياسية والعسكرية ، ويحظى باحترام مجتمعه ، فلربما يرفض صداقتي تحت كثير من المبررات ، فأنا ما زلت أحاول اتقاء النار ولو بشق تمرة ، أو على الأقل أشير إلى الخطر الداهم ولو بأضعف الإيمان ، حيث أُرْتِجَ على الأمة ، وكما يُقال بالعامية: ” أُخِذَ غَرِيفُهَاَ” بمعنى اختل توازنها ، وفُقِدت بوصلتها، وزوّرت حضارتها ، وحُطِّمت ثقافتها ، وهُمِّش مثقفوها ، وأغتيلت شخصيتها ، واستبدلت قيمها ، وتغيرت عاداتها وتقاليدها، ودمِّرت أساليبُ التربية فيها ، وهُجِّنت مناهجُها ، وسُطِّحت ثقافتها ، وأصبحت أقرب إلى الاستسلام .. فأنا أكتب وأصابع يدي لا تكاد تطبق على قلمي ، وأفكاري لا تريد أن تخرج.. وكأنها تقول اخِّرُوني … أخِّرُوني … ، وأنا أقرأ بتمعن ما عبر عنه رئيس أركان القوات الأمريكية الأسبق ووزير الدفاع الأسبق ووزير الخارجية الأسبق الجنرال “كولن باول” بقوله : ” لا استطيع أن أفكر في رصيد أثمن من صداقة قادة عالم المستقبل الذين تلقوا علومهم هنا ” ، فقد أصبحت هذه المقولة أخطر مرتكزات الحرب الناعمة ، حيث يكمن الداء في جوف الأمة ، وقد تحقق لهم الكثير من ذلك .
هنا أدرك خطورة هذا الطرح الذي قطع على طريق النجاح شأواً بعيداً ، حيث لم يعّد الإحساس الوطني لدى الكثيرين إحساساً قوياً يشكل منبع الفخر وفيض الاعتزاز الذي كنّا نألفه ونتقمصه من الرجال الذين شكّلوا نماذج وطنية سجّلها لهم التاريخ ، فالمواطنة الصالحة أصبحت مفهوماً لا يرتبط إلا بتحقيق المصالح الخاصة والفوائد والعوائد والمنافع الشخصية وللشللية ، ولم تعد مشاعر الولاء والانتماء تلك المشاعر القيمية التي يعبر فيها المرء عن مواقفه تجاه وطنه وقيادته وشعبه ، بحيث تجسد معاني مفاهيم المواطنة الحقة الصادقة ، فحينما نعبر عن الولاء والانتماء يأتيك من يشكك ويخلخل قناعاتك ، ويقول عن أي ولاء وانتماء تتحدث ؟ ، فنجيب بكل ثقة أننا بخير ووطننا بخير، وقيادتنا بألف خير .. وتأتينا الإجابة غير واضحة المصدر، ولا مفهومة المعنى ، وعلى شكل “غمغمة”، لأننا كمواطنين لا تصلنا كل الحقائق بشفافية ووضوح ، وقد لعبت فينا تطبيقات الفيسبوك والواتساب، والانستغرام، والسنابشات، والأفلام القصيرة والإباحية وغيرها دور المخدر في حياة الأجيال من شبابنا وأبنائنا وبناتنا من شتى المراحل العمرية ، حتى أصبحو وهم يمسكون بهواتفهم الخليوية ، وكأنهم ليس هنا .. فهم في عالم آخر، وكأنهم ليس لهم علاقة أو ارتباط بما يدور حولهم – بالمناسبة وأنا أكتب على جهازي في مكتبتي هذا المقال دخل علي حفيدي البالغ من العمر خمس سنوات – وهو المسموح له الدخول عليّ بدون استئذان حينما أكتب – وبيده هاتف وسمعته يقول : “والله اللي يفوز عليّ لأكسره” ، فقلت له ماذا تقول ؟ مين اللي بدك تكسره ، فأشار إلى شاشة هاتفه.. هنا في اللعبة التي ألعبها ، دنا مني وقبلته على رأسه ، وعينه على اللعبة في شاشة هاتفه ، وهي لعبة لإلهاء الصغار عن كل شيء ، ومن الألعاب المحببة للأطفال ، قبّلني لأنه غال عليّ وقريب مني ، لكن دون أن يرفع نظره عن شاشة هاتفه ، ثم غادر مكتبتبي فوراً ليكمل مشواره مع لعبته المفضلة ، وانا أنادي عليه برجاء ليجلس معي قليلاً ولكنه لم يستجب – وفي الحقيقة أصبح الكبار والصغار لا يهتمون بما يدور حولهم ، وكأنهم ليس لهم علاقة أو ارتباط بمجتمعاتهم على مختلف المستويات الأسرية والاجتماعية والوطنية والقيمية ، ولا مع العادات والتقاليد الحسنة والأخلاقية ، وتغيّرت ثقافتهم إلى مفهوم واحد يتلخص في “أنا فقط وما بعدي الطوفان” ، ليكن ما يكن فليس لي علاقة !!!!! ، وهذا واحد من أهم واخطر أهداف الحرب الناعمة التي بشرنا فيها العمّان:”جوزيف ناي” في كتابه “القوة الناعمة” عام 2004م ، وسبقه ” نعوم تشومسكي” في استراتيجياته العشر في كتابه الموسوم بــ :” صناعة الإذعان” .
أيها الفضلاء القراء …. في الحروب العسكرية ” الخشنة” ، يتم القتال وجهاً لوجه ، ويدافع الشرفاء عن أوطانهم منطلقين من عقائد صادقة تدافع عن أممهم وأوطانهم وشعوبهم ، ومعظم الحروب العسكرية انتهت بالجلوس إلى طاولة المفاوضات من غالبين ومغلوبين ، وتم توقيع الاتفاقيات ، ولكن بقيت ذكريات الرجال الذين دافعوا عن أوطانهم ، واعترف أعداؤهم بشجاعتهم وبسالتهم ، وتم بناء صروح الشهداء للذين سجلوا البطولات في تلك الحروب ، لكن الحرب الناعمة التي تتعرض لها الأمم والأوطان والشعوب في هذه الأيام هي أكبر خطراً ، وأشد فتكاً ، ونحن نراها تدمر العقول وتسلب الثقافات ،وتهدم الحضارات ، وتزعزع المعتقدات ، وتحارب الأديان ، وتتحلل من كل أخلاقيات البشر وأخلاقيات الحروب ، وتضيِّع حقوق الإنسان ، فهي حرب لا ناعمة ولا ما يحزنون .. إنها الحرب القاتلة الخانقة ، فأنت تطلق رصاصة على خصمك فتنهي حياته فوراً ، ولكن في الحرب الناعمة علينا أن ننظر إلى يدي الصياد ماذا تفعلان وهو يقتل العصفور ، وليس إلى عينيه كيف تذرفان الدموع .
والفرق بين القوة الناعمة والقوة الخشنة أن الناعمة لها وسائلها وأساليبها من خلال الدبلوماسية الناعمة ، وهرطقات الحوارات الحضارية – حيث لا حوار حضارياً غير متكافىء لا في القوة ولا في الاحترام المتبادل – والعلاقات السياسية والإنسانية المشتركة ، والقدرة على استخدام نظريات العصا والجزرة ، والقيادة من الخلف من أجل تفادي الخسائر البشرية والأكلاف المادية ، ولها أهداف تسعى لتحقيقها دون خسائر تُذكر ، من خلال إثارة الفتن ، والمخططون يراقبون ويتفرجون ، فلتحطم الشعوبُ بعضَها ، ولتقتل الفرقُ والجماعاتُ والأشياعُ (الناس المتقاربين في آرائهم والمؤيدين لبعضهم) خصومها ، والفائز هو من ينتصر ، ويوظف الإعلام للفوز بروايته حتى لو كانت غير مستندة إلى حقيقة ، فيأتي المنظرون ليدعموا طرفاً دون طرف ، ويقفون إلى جانب دون جانب ، ويناصرون خصماً على ضده ، حيث يتسابق المتخاصمون لكسب ودهم ، لأنهم يملكون القوة والمال ، وبالتالي يحصلون على النتائج المطلوبة وفق ما خُطِطَ لها ، والناس غارقون في وهم المناصرة ، فنرى ما لا تستطيع تصديقه .. كيف يقتل الناس بعضهم بعضاً ، وكيف يعادي الأخ أخاه ، وكيف يتمرد الابن على أبيه ، وكيف تخرج الزوجة دون إذن زوجها ، وكيف يُولّى الضعيف ، ويُستبعد ويُهَمَّشُ الأقوى والأكفأ، وترى قادة المستقبل الذين ذكرهم الجنرال “كولن باول” كيف تصدروا الواجهات ، وكيف يلبسون أجندتهم بظلم وباطل وهم يسهمون بتشكيل الرأي العام وتكوينه ، مع أن الكثيرين يدركون ويفهمون مدى إهانات استراتيجيات ” تشومسكي” العشر، واستخفافها بالعقل البشري ، وإلهائها للشعوب، وإبقائها مشغولة بقضايا أقل من تافهة ، مما يشعل مواقع التواصل الاجتماعي، فقد تكون قضية خدماتية بسيطة مثل تعطل مصباح من مصابيح الكهرباء في شارع ما ، أو كلمة صدرت من أناس لا يقدرون ما يتفوهون به بعد نتائج مباراة رياضية ، وعلى ذلك قس ، فما فتىء مخططو الحرب الناعمة يخاطبون الشعوب كالأطفال ، ويحركونهم كالدمى ، ويثيرون فيهم ردود الفعل المفرغة من أي مضمون صحيح أو فكر حقيقي أو تحليل منطقي صادق للأحداث أو من أي إحساس وطني صادق ، فالأوطان وراء ظهور قادة المستقبل الذين كسروا في قلوب أبناء الأمة محبة العلم ، وعمّقوا الفجوة في التعليم بين من يستطيعون ومن لا يستطيعون ، من أجل مزيد من صناعة وهندسة الجهل ، وتكريس الرضى به في نفوس الجميع .
فإلى خريجي الـــ “هناك” على رأي الجنرال “كولن باول” … إذا كنتم تعرفون – واعتقدكم كذلك ، ولا نحط من قيمتكم العلمية – فتلك مصيبة ، وإذا كنتم لا تعرفون فالمصيبة أعظم ، وإذا كنتم تعرفون ولا تقدرون على اتخاذ قرار أو بناء موقف أو تقديم نصح وإرشاد، فإن الترجل عن صهوات جيادكم أفضل، والنزول عن منصات قراراتكم أرجل ، وعدم التمسك بالكراسي أشرف، لأن هناك فرسان وطن لا تعني لهم المكاتب والكراسي والمنصات والإغراءات شيئاً في حياة تحكمها ذلة استراتيجيات الحروب الناعمة ، فالتاريخ لا يهمل كبيرة ولا صغيرة ، ومتعة الكرسي لذة سرعان ما تزول ، وكأس الحنظل بكرامة أفضل من مئات كؤوس الحياة بذلة في ظل عالم يسوده عدم توقير الصغير للكبير، وعدم احترام التلميذ للمعلم ، وعدم السعي لعزة الوطن وكرامة المواطن، وجعلها في آخر سلم الأولويات …وسلام على صديقي اللدود جوزيف ناي لعله يخرج علينا هو أو غيره بنظريات دفاع ناعمة تنصف الأمم والشعوب وتحميها .